04

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

{ اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ{

ثمَّ الصَّلاةُ والسَّلامُ على سيِّدِنا محمَّدٍ، وعلى آلِه وصحبِه ومَنِ اتَّبَعَه بإحسانٍ، مُعَلِّمِ الإنسانيَّةِ الخيرَ، وهادي البشريَّةِ إلى الحقِّ والإيمانِ والعَدلِ والإحسانِ.

أصحابَ المَعالي والسَّعادةِ والعُطوفةِ، السَّيِّداتِ والسَّادةِ، زملائي الكِرامَ، الحَفْلَ الكَريمَ،

السَّلامُ عليكم ورحمةُ اللهِ وبركاتُه، أمَّا بعدُ:

فإنَّهُ من دواعي سُروري أن أقِفَ اليومَ بين أيديكم مُمَثِّلًا عن زملائي، فوجِ خِرِّيجي المَجلسِ العربيِّ لِلاختِصاصاتِ الصِّحِّيَّةِ دُفْعَةِ عامِ 2024، في هذه اللَّحظةِ التي تُضِيءُ بفَرَحِنا وتَمتَلِئُ فَخْرًا بإنجازِنا، نَقطِفُ فيها ثِمارَ سَنواتٍ من السَّهرِ والتَّعبِ، وتَختلِطُ في قلوبِنا المَشاعِرُ وتَزدهي أَلَقًا بلذَّةِ الوُصولِ إلى لَحظةِ التَّكريمِ على الإنجازِ، ونَيلِ الجائزةِ بعدَ رِحلةٍ طويلةٍ مملوءةٍ بالصُّعوباتِ والتَّحدِّياتِ تعلَّمنا خلالها دَرسًا من دُروسِ الحياةِ: أنَّ الألمَ طريقٌ إلى الأملِ، وأنَّ بعدَ العُسرِ يُسْرًا وتَيْسيرًا.

ونحنُ نقِفُ اليومَ على منصَّةِ التَّتويجِ، نَستحضِرُ في المَشهَدِ مَعاناةَ أهلِنا وأوطانِنا في هذه الظُّروفِ الصَّعبةِ، ونَستذكِرُ ما تُعانيهِ أُمَّتُنا من جِراحٍ وآلامٍ في كلِّ بُقعةٍ من أرضِ العُروبةِ، ونُجدِّدُ العَهدَ أن نكونَ مع المُخلِصينَ من أبناءِ أُمَّتِنا في صِناعةِ الأملِ، وأن نكونَ طِبًّا وتِرياقًا لآلامِها وأوجاعِها.

أصحابَ المَعالي والسَّعادةِ والعُطوفةِ، السَّيِّداتِ والسَّادةِ، زملائي وأحبَّتي، الحَفْلَ الكَريمَ،

إنَّ هذا النَّجاحَ لم يكن لِيَتَحقَّقَ لولا دَعواتُ آبائِنا وأُمَّهاتِنا التي رافَقَتنا كأنوارِ الطَّريقِ، وكانت لنا ذُخرًا عندَ مَولانا رَبِّنا، تَسنِدُنا إذا تَعَثَّرْنا، وتَبعَثُ فينا القُوَّةَ والحَماسَ حينَ يَتملَّكُنا النَّصَبُ ويُنهِكُنا التَّعبُ، ولن نَنسى أفضالَ مَن لَهُم أفضالٌ علينا من أهلٍ وزوجاتٍ وأولادٍ وخِلّانٍ عاشوا معنا وطالَهُم منَّا التَّقصيرُ في حُقوقِهم وواجِباتِهم علينا، فما عَتِبوا ولا لاموا، ولكنَّهُم أَعذَرونا فلم يُؤاخِذونا. فلَهُم منَّا كُلُّ الشُّكرِ والعِرفانِ والامتِنانِ، وخالِصُ المودَّةِ والدُّعاء.

الحَفْلَ الكَريمَ،

قِصَّتي هي قِصَّةُ الإنسانِ في سِياقِ المُعاناةِ، قِصَّةٌ مكرورةٌ، هي قِصَّةُ كُلِّ خِرِّيجٍ في كُلِّ وَطَنٍ، ولكنَّ السِّياقاتِ تختلفُ، وتَختلفُ التَّفاصيلُ، غيرَ أنَّها كُلها تَسوقُ إلى مَعانٍ واحدةٍ.

حينَ تَمتَلِئُ شِعابُ الذَّاكرةِ بالمشهَدِ وبالذِّكرياتِ، أجدُني أرسُمُ اللَّوحةَ بريشةِ الكلماتِ؛ وُلِدتُ في شرقِ السُّودانِ في مدينةِ كَسَلا، وتَرَعْرَعْتُ في المملكةِ العربيَّةِ السُّعوديَّةِ في محافظةِ الحَجْرَةِ، فيها كانت مَدَارجُ طُفولتِي، لي فيها أساتذةٌ كِرامٌ، وإخوةٌ وأخواتٌ من الرَّضاعةِ ما انقطعوا عنِّي أبدًا ثمَّ تَخرَّجتُ في السُّودانِ، وتخصَّصتُ في الجِراحةِ العَصَبيَّةِ في الأُردنِ، وفي عَثَراتِ الطَّريقِ ومَنعرجاتِه، كان لي إخوةٌ وزُملاءُ من كُلِّ الأوطانِ العربيَّةِ، سانَدوا ودَعَموا، وأخصُّ بالذِّكرِ منهم أَخَوَيْنِ كريمَيْنِ عَريقَيْنِ في مَنابِتِ الجودِ؛ أخًا من فلسطينَ، وآخرَ من اليَمَنِ، لم يَتَوَقَّفا عن إرسالِ مَبلَغٍ شَهريٍّ اقتَطَعاه من قُوتِ عيالِهما لمُسانَدَتي في دِراستي، من غيرِ طَلَبٍ منِّي، إذ عَلِما أنَّني لا أتقاضى راتبًا أثناءَ دِراستي، وأنَّ عليَّ إعالةَ نفسي والدِّراسةَ التي تتطلَّبُ وقتًا طويلًا، فأَوسَعَا علَيَّ من كَرَمِهما لِيَتَوَفَّرَ لي وقتُ الدِّراسةِ والتحصيلِ الأكاديميِّ.

فالشُّكرُ لهما موصولٌ، والدُّعاءُ لهما حاضِرٌ لا يَنقَطِعُ، حتى لَكَأنَّ الشَّاعرَ كان يعنيهما ويعنيني حينَ قال:

سَأَشكُرُ عَمرًا إِن تَراخَتْ مَنِيَّتِي                                    أَيادِيَ لَمْ تَمْنُنْ وَإِنْ هِيَ جَلَّتِ

فَتًى غَيْرُ مَحْجُوبِ الغِنَى عَنْ صَدِيقِهِ                        وَلَا مُظْهِرُ الشَّكْوَى إِذَا النَّعْلُ زَلَّتِ

رَأَى خُلَّتِي مِنْ حَيْثُ يَخْفَى مَكَانُهَا                               فَكَانَتْ قَذَى عَيْنَيْهِ حَتَّى تَجَلَّتِ

وكان أوَّلُ مَن فَتَّحَ عينيَّ على البَحثِ العِلميِّ أَخٌ نَبيلٌ من العِراقِ، وأخذ بِيَدِي فيه أَخٌ مُخلِصٌ من مِصرَ، نَقَلَني معه في مَدَارجِ التَّعلُّمِ خُطوةً خُطوةً وهكذا علَّمَتْنِي الحياةُ أنَّ النَّجاحَ لا يُبنِيه فَردٌ واحدٌ، ولكنَّه ثَمَرةُ تَضافُرِ الهِمَمِ والأرواحِ، وصِناعةُ قلوبٍ مُتكاتِفةٍ وأَيْدٍ مُتعاوِنةٍ وأنَّه دَيْنٌ أَدِينُ به لِغيري مِمَّن يَستَحقُّون من مَحيطِ مَعَارفي وخِلّاني.

زملائي وأحبَّتي، الحَفْلَ الكَريمَ،

وإن نَنسَ شُكرَ أحدٍ، فلا نَنسى أساتِذَتَنا الكِبارَ في الأُردنِ الحَبيبِ وفي كُلِّ قُطرٍ عربيٍّ، نقولُ لهم:

أنتم مَن غَرَسَ فينا حُبَّ المُثابَرةِ والتَّصميمِ على الوُصولِ، وعلَّمتُمونا أنَّ شَرَفَ المِهنةِ هو أن نُحقِّقَ فيها مَعنى إنسانيَّتِنا، ونَبذُلَ فيها كُلَّ جُهدِنا بإحسانٍ وإتقانٍ فَلَكُم منَّا كُلُّ التَّقديرِ والعِرفانِ.

إنَّ نَجاحَنا اليومَ ليس مَحطَّةَ وُصولٍ، بل هو بدايةُ عَهدٍ جديدٍ من العطاءِ الإنسانيِّ والفَضائلِ والشَّمائلِ التي تُقوِّي وَعْيَنا وتُجمِّلُ عَمَلَنا.

نَسألُ اللهَ تعالى أن يكونَ عَمَلُنا خالِصًا لِوجهِهِ الكَريمِ، وأن يَكتُبَ به النَّفعَ للعِبادِ والبِلادِ.

﴿وَاللَّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾

وآخِرُ دَعوانا أنِ الحَمدُ للهِ رَبِّ العالَمينَ

والسَّلامُ عليكم ورحمةُ اللهِ وبركاتُه