الاعتماد: ديمومة الالتزام بالتحسين وجودة الأداء
زملائي أعضاء المجتمع الطبي
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد،
كان أفلاطون يعتبر التعليم الصحيح موسيقا للنفس ورياضة للبدن، وأنّ حُسن سلوك الإنسان فرع عنه، وأنّ غرضه (التعليم الصحيح) الأساس ترقية الفضيلة حيث يرمي إلى إنشاء أرقى أصناف الناس في مختلف الصنائع والعلوم، لعل هذه المقولة الأفلاطونية ودلالة معناها هي أنسب توطئة تمهد لحديثنا حول الاعتماد الأكاديمي لبرامج التعليم الطبي في كل مستوياتها من منظور المجلس العربي للاختصاصات الصحية، باعتبار أن الغاية البعيدة المرجوة للاعتماد تحسين رعاية المرضى وسلامتهم وتحسين أداء النظم الصحية بأكملها، وأيُّ موسيقا أروع نغمًا وأوقع في نفس الأطباء ومقدمي الرعاية الصحية من حفظ حياة الناس وتحقيق رفاههم الصحي، ثم على مستوى الوعي الحضاري أليس "حفظ الحياة" غاية الغايات وأسمى مراتب الفضيلة الإنسانية وأعلى مطالبها؟
لقد نصت أهداف المجلس العربي في النظام الأساسي على:
"تحسين الخدمات الصحية في الوطن العربي وذلك عن طريق تأهيل اختصاصيين في المجالات الصحية ليكونوا ذوي كفاءة مهنية وعلمية عالية وفق المعايير العالمية، ورفع المستوى العلمي والعملي لمقدمي الخدمات الصحية في مختلف المهن والاختصاصات الصحية من خلال التعاون مع المؤسسات التعليمية المعنية"
ولتحقيق هذه الأهداف الغائيّة كان على رأس أولويات المجلس دائمًا وضع موصّفات التأهيل والتدريب وفقًا للمعايير العالمية في مناحي العمل كافة، والدّأَبِ على استكمالها بما يلزم من متابعة ومراقبة كي تبقى منتجة لجودة الرعاية الصحيّة ومحتفظة بمستوياتها المقررة مع الاستمرار في مراجعتها لاستئناف تطويرها ومواكبتها للتقدم العلمي والممارسات العالمية الفضلى وهذه الإجراءات هي أساس فكرة الاعتماد وانبثاق العمل بمتطلباته عالميًا.
ولكن الأسئلة التي تبقى حاضرة في هذا السياق ما معنى الاعتماد في سياق برامج التعليم والتدريب؟ ولماذا تحتاجه مؤسسات التعليم والتدريب في الاختصاصات الصحية؟ ما قيمته الحقيقية وفوائده وما تمثّلاته في السياقات الطبية والصحية المختلفة؟ ولماذا يسعى المجلس العربي اليوم إلى تحقيقه على نحو رصين ودقيق؟
إن الاعتماد في التعليم الطبي كما يعرّفه الاتحاد العالمي للتعليم الطبي: "شهادةٌ بملاءمة برامج التعليم الطبي للمستفيدين منها، واعتراف بكفاءة المؤسسات التي تقدمه على نحو يضمن سلامة المرضى والأطباء على حد سواء". ومن هنا يمكن النظر إلى الاعتماد في عموم معناه بأنه وسيلة يطمئن بها المجتمع الطبي والجمهور أيضًا على جودة التعليم وصلته بالممارسة الطبية المحترفة المنضبطة. وهو كذلك وسيلة لصناعة التغيير في التعليم الطبي وممارسة الأطباء وأنظمة الرعاية الصحية لتبلغ أعلى درجة في جودة الأداء، ولعل أبلغ من سوّغ هذا الفهم خبير الجودة العالمي دافيديوف حيث يقول في مقالة مشهورة له:
"إذا كان المطلوب أن تحقق الرعاية الصحية إمكاناتها الكاملة، فيجب أن يصبح "صنع التغيير" مكونًا جوهريًا في عمل كل فرد، كل يوم، في كل جزء من أجزاء النظام"
إن القيمة الحقيقية للاعتماد في التعليم الطبي ومؤسساته هو تأطيره للكفايات والتوقعات المهنية العالية التي ينبغي استحضارها في أداء المتعلمين على اختلاف مستوياتهم وتحديد معاييرها بدقة حيث يركز فيها على المعارف والمهارات والخصائص التي تلزم خريجي البرامج الصحية وتنمي قدراتهم وتحقق جودة تعلمهم وأدائهم العملي في سياق محيطهم الاجتماعي والثقافي. لقد أثبتت الدراسات الطبية قوة الارتباط بين الاعتماد بما ينطوي عليه من معايير وإجراءات تُختبر فيها قوة التزامهم بها وانتظامهم في تنفيذ متطلباتها، والفائدةِ التي تعود على صحة المرضى وسلامتهم وذلك عند تخريج اختصاصيين أعلى قدرة وأكثر استعدادًا للممارسة الاحترافية دائمًا.
إن دعوة المجلس العربي للالتزام بالاعتماد بفرعيه المؤسسي والبرامجي يأتي من حقيقة إدراكه الواعي بالنتائج التي تَتَحقق جراء تطبيقه، والفوائد التي تتأتى منه، وقد ثبتت علميًا في المستويين التنظيري والتجريبي. إن توجهنا في المجلس العربي اليوم يتحرك صوب إنتاج ثقافة جديدة تقوم على صناعة "بيئة التعلم المثالية المنظّمة" التي تضمن سلامة استمرارية التعلم الطبي، وتنتجه على نحو احترافي قائم على الكفايات الطبية العالمية، والممارسات الموجهة نحو النتائج، وتحقيق المسؤولية المشتركة عنها. وفي إطار هذه الغاية أُقرت في المجلس العربي اللائحة التنظيمية للشؤون الأكاديمية مطلع هذا العام، وقد تضمنت قواعد ناظمة جديدة للاعتماد المؤسسي والبرامجي يجري تأطيرها بمعايير وإجراءات واضحة، وجلّ ما نصبو إليه في هذا السياق أن تحقق أنظمتنا الصحية العربية خطوات واسعة في هذا المجال ترفع من مكانتها وتؤهلها إلى أدوار جديدة في المستقبل أكثر إشراقًا وتقدمًا.
نسأل الله السداد فكرا وعملا
وإلى رسالة قادمة إن شاء الله، دمتم بخير
تحياتي المخلصة
الأمين العام
أ.د عمر الرواس