Prof. Omar Alrawas

الذكاء الاصطناعي في التعليم الطبي

بوصلة واتجاه في إستراتيجية المجلس العربي

 

 

الزملاء الأعزاء في المجتمع الصحي العربي

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد،

 

تأتي رسالتي هذه إليكم ونحن على أعتاب مرحلة مختلفة من العمل في المجلس العربي للاختصاصات الصحية، نَشْرعُ في خطة إستراتيجية جديدة (2026 – 2030)، ونبذل قصارى جهدنا فيها لفتح أبوابٍ لأفكار جديدة وأخرى متجددة، ونمهد السبيل لعمل مستشرف طموح، وقد بدأنا في أول مراحل إعدادها حيث اعتمدت الهيئة العليا بمبادرة من رئيسها معالي الأستاذ الدكتور صالح الحسناوي الأهداف الإستراتيجية للخطة، وكان من أبرزها: استثمار التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي في تعزيز التحول الرقمي.

والناظرُ المتأمل في هذه الأهداف يجدها كلها معًا صُلب عمل المجلس العربي التي عملنا عليها في خطتنا الإستراتيجية السابقة (2021 – 2025)، ولكنّ الجديد فيها هو إفرادُ هدفٍ خاص للاستثمار التكنولوجي والذكاء الاصطناعي؛ تأكيدًا على أهميته وقوة حضوره اليوم في مجالات التعليم الطبي وأثره المتوقع في إحداث نقلات نوعية فيها، وقد بدأنا نلمس آثاره بزخم بالغ، ونتائج تطبيقاته الماثلة اليوم كثيرة وسريعة ومذهلة.

 

زملائي أعضاء المجتمع الصحي العربي

إن دمج الذكاء الاصطناعي في مناهج التعليم الطبي بما يلبي توقعات المتدربين وبيئة النظام الرقمي المتعاظم بات اليوم أمرًا متحتمًا، وخطوة محورية لا يمكن التغافل عنها؛ ففيه تعزيز تطور الرعاية الصحية لا سيما مع تزايد الاهتمام بدمج تطبيقاته في العمليات السريرية وعمليات دعم اتخاذ القرار فيها، واستعماله في خوارزميات التشخيص الطبي والتصوير والتحليلات التنبؤية، وحلول العلاج الشخصي، وإدارة المرضى، فضلا عن التوسع في البحث العلمي لآثار تطبيقاته، ومراقبة اتساقها مع مبادئ أخلاقيات المهن الصحية، وتنظيم مسارات تطور الذكاء الاصطناعي في سياق إنساني يحمي رفاه البشر ويحفظ أسباب صحتهم العامة ويؤكد أولوية سلامتهم، وما من شك أن هذه الاعتبارات ستُعيد تشكيل مستقبل ممارسي المهن الصحية بطرائق عديدة، وتصنع لدى أطباء المستقبل اهتمامات جديدة تتعلق بهذه المتغيرات من تطوير مهاراتهم وصقل كفاياتهم في استخدام تقنيات الذكاء الاصطناعي بفاعلية وأخلاقية، الأمر الذي يجعل من تطوير التدريب الطبي قضية أساسية وأولوية مهنية تُسخَّرُ لها كل الإمكانات والموارد.

 

من منظور إستراتيجي تقني يُستخدم الذكاء الاصطناعي اليوم  في التعليم الطبي بهدف تعزيز التعلم بأساليب كثيرة؛ فأنظمة التدريس الذكية توفر تعلمًا شخصيًا متناسبًا مع حاجات المتعلمين؛ فما عادت فكرة "مقاس واحد يناسب الجميع" قائمة بوجود تطبيقات الذكاء الاصطناعي التي أصبحت منصاته تقدم مسارات تعليمية مخصصة ومتكيّفة وفق احتياجاتهم الفردية، كما أن تطبيقاته أيضًا تتيح كثيرًا من أدوات تقييم مهارات المتدربين، وهي أدوات يمكن أن تكشف جودة أدائهم، وتقدم للمشرفين والمدربين تحليلات عميقة حول دلالات نتائجهم، ومدى تحقق معايير تعلمهم، وهناك روبوتات الدردشة (Chatbots) المدعومة بالذكاء الاصطناعي التي تساعد المتدربين على مراجعة الأدبيات الطبية، والتحضير للامتحانات، وتطوير مهارات التفكير النقدي ومهارات التخاطب والتواصل مع المرضى والفِرق الطبية.  كما تقدم أنظمة المحاكاة المدعومة بالذكاء الاصطناعي تجارب تدريبية جراحية افتراضية تتجاوز قيود الجغرافيا ومحدداتها، وقد أدى دمج هذه الأدوات إلى تعزيز إمكانية الوصول إلى تعليم طبي شامل وعالمي.

 

ومع هذا الاستباق والتدفق المعرفي الذي ينقل التعليم الطبي إلى مساحات جديدة من الوصول الدقيق والمحاكاة السهلة الُمقرّبة للفهم والتطبيق، فإن الأفكار المطبقة حاليا لدمج الذكاء الاصطناعي في المناهج الطبية لا تزال غير كافية؛ فهي لا تركز على تطوير المهارات اللازمة للمتدربين للتعامل مع البيئات السريرية المدعّمة بالذكاء الاصطناعي؛ فضلا عن أن المناهج لا تولي اهتمامًا كافيًا للتحديات الأخلاقية والتشغيلية التي تُفرزها استخدامات أدوات الذكاء الاصطناعي؛ مثل التحيز في خوارزمياته أو خصوصية بيانات المرضى وسريتها.

 

ولعل من الأهمية بمكان أن نشير إلى المجلس العربي في توجهاته نحو الذكاء الاصطناعي لن يكتفي بتضمين مناهج التعليم الطبي تقنيات الذكاء الاصطناعي، بل لا بد من إضافة أبعاد مهمة في تكوين الطلبة والمتدربين تركز على المهارات العرضية (Transversal Skills)؛ مثل التعلم الذاتي الذي يُمكّنُهم من مواكبة التطورات التكنولوجية بدافع ذاتي واستقلالية، والتفكير النقدي والابتكاري، والمهارات الضمنشخصية والتكيف الذي يمكنهم من التعامل مع تطبيقات الذكاء الاصطناعي في إطار التغيرات السريعة التي صارت سمة أساسية لها. وجدير أن نذكر هنا أن تطوير المناهج الطبية بواسطة الذكاء الاصطناعي أصبح أمرًا ضروريًا، ليس من جهة الانفتاح على مصادر واسعة ومحدثة باستمرار وحسب، بل من جهة التغذية الراجعة والتقويمات المنظّمة التي يجريها على المناهج ويستدخلها في منظومته باعتبارها بيانات تستجيب للتغيرات المعرفية ودينامكية تحولاتها.

   

إننا في المجلس العربي اليوم نعي تمامًا حقيقة الفرق الذي أحدثته تطبيقات الذكاء الاصطناعي في التعليم الطبي ومداه، ونسعى بكل ما أوتينا من إمكانات بعزيمة وإصرار إلى تمكين الجيل القادم من الأطباء والممارسين الصحيين ليكونوا روادًا في مجالاتهم، قادرين على تسخير الذكاء الاصطناعي لتحسين جودة الرعاية الصحية وفائقيتها، مع الحفاظ على أساليب الرحمة والتعاطف وتقدير البعد الإنساني واحترامه في ممارساتهم.

 

إن أملا كبيرًا يحدونا بأن تكون الخطة الإستراتيجية القادمة مجالا رحبًا لتطوير العمل الصحي العربي، وأن نحقق في آفاقها إنجازات أخرى كبيرة تسهم في رفاه المواطنين العرب، وتحسن جودة صحتهم وحياتهم.

 

نسأل الله السداد والرشاد

وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ

والسّلامُ عليكمْ ورحمةُ اللهِ وبركاتُهُ

 

 

أ.د. عُمر الروّاس

الأمين العام